القول في تأويل قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } اختلف أهل التأويل في معنى ذلك , فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت , وإن ضيعت عوقبت , فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها , وحملها آدم { إنه كان ظلوما } لنفسه { جهولا } بالذي فيه الحظ له . ذكر من قال ذلك : 21893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : ثنا هشيم , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , في قوله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على العباد . 21894 - قال : ثنا هشيم , عن العوام , عن الضحاك بن مزاحم , عن ابن عباس , في قوله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها } قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على عباده . 21895 - قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا العوام بن حوشب وجويبر , كلاهما عن الضحاك , عن ابن عباس , في قوله { إنا عرضنا الأمانة } ... إلى قوله { جهولا } قال : الأمانة : الفرائض . قال جويبر في حديثه : فلما عرضت على آدم , قال : أي رب وما الأمانة ؟ قال : قيل : إن أديتها جزيت , وإن ضيعتها عوقبت , قال : أي رب حملتها بما فيها , قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية , فأخرج منها . * حدثنا ابن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد , عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية { إنا عرضنا الأمانة } قال : عرضت على آدم , فقال : خذها بما فيها , فإن أطعت غفرت لك , وإن عصيت عذبتك , قال : قد قبلت , فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة. * حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } إن أدوها أثابهم , وإن ضيعوها عذبهم , فكرهوا ذلك , وأشفقوا من غير معصية , ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها , ثم عرضها على آدم , فقبلها بما فيها , وهو قوله : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } غرا بأمر الله . * حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبى , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { إنا عرضنا الأمانة } : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على آدم , فلم تطقها , فقال لآدم : يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال , فلم تطقها , فهل أنت آخذها بما فيها ؟ فقال : يا رب : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت , وإن أسأت عوقبت , فأخذها آدم فتحملها , فذلك قوله : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } . 21896 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قال : ثنا سفيان , عن رجل , عن الضحاك بن مزاحم , في قوله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } قال آدم : قيل له : خذها بحقها , قال : وما حقها ؟ قيل : إن أحسنت جزيت , وإن أسأت عوقبت , فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى أخرج منها . 21897 - حدثت عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } فلم يطقن حملها , فهل أنت يا آدم آخذها بما فيها قال آدم : وما فيها يا رب ؟ قال : إن أحسنت جزيت , وإن أسأت عوقبت , فقال : تحملتها , فقال الله تبارك وتعالى : قد حملتكها ; فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه الله من الجنة ; والأمانة : الطاعة . 21898 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني , قال : ثنا بقية , قال : ثني عيسى بن إبراهيم , عن موسى بن أبي حبيب , عن الحكم بن عمرو , وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء , فأرسلوا به , فمنهم رسول الله , ومنهم نبي , ومنهم نبي رسول . نزل القرآن وهو كلام الله , ونزلت العربية والعجمية , فعلموا أمر القرآن , وعلموا أمر السنن بألسنتهم , ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون , وهي الحجج عليهم , إلا بينه لهم , فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح , ثم الأمانة أول شيء يرفع , ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس , ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم , وتبقى الكتب , فعالم يعمل , وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إلي وإلى أمتي , فلا يهلك على الله إلا هالك , ولا يغفله إلا تارك , والحذر أيها الناس , وإياكم والوسواس الخناس , وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا " . 21899 -حدثني محمد بن خلف العسقلاني , قال : ثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي , قال : ثنا العوام العطار , قال : ثنا قتادة , وأبان بن أبي عياش , عن خليد العصري , عن أبي الدرداء , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس , على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن , وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها " وكان يقول : " وأيم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن , وصام رمضان , وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا , وأدى الأمانة " قالوا : يا أبا الدرداء : وما الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة , فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره . 21900 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا عبد الرحمن , قال : ثنا سفيان , عن الأعمش , عن أبي الضحى , عن مسروق , عن أبي بن كعب , قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها . 21901 -حدثني يونس , قال : ثنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قول الله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين , ويجعل لهن ثوابا وعقابا , ويستأمنهن على الدين , فقلن : لا , نحن مسخرات لأمرك , لا نريد ثوابا ولا عقابا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وعرضها الله على آدم , فقال : بين أذني وعاتقي " ; قال ابن زيد , فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك , أجعل لبصرك حجابا , فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك , فأرخ عليه حجابه , واجعل للسانك بابا وغلقا , فإذا خشيت فأغلق , واجعل لفرجك لباسا , فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك . 21902 -حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } يعني به : الدين والفرائض والحدود { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } قيل لهن : احملنها تؤدين حقها , فقلن : لا نطيق ذلك { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } قيل له : أتحملها ؟ قال : نعم , قيل : أتؤدي حقها ؟ قال : نعم , قال الله : إنه كان ظلوما جهولا عن حقها . وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس . ذكر من قال ذلك : 21903 -حدثنا تميم بن المنتصر , قال : ثنا إسحاق , عن شريك , عن الأعمش , عن عبد الله بن السائب , عن زاذان , عن عبد الله بن مسعود , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال : يكفر كل شيء -إلا الأمانة ; يؤتى بصاحب الأمانة , فيقال له : أد أمانتك , فيقول : أي رب وقد ذهبت الدنيا , ثلاثا ; فيقال : اذهبوا به إلى الهاوية فيذهب به إليها , فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها , فيجدها هناك كهيئتها , فيحملها , فيضعها على عاتقه , فيصعد بها إلى شفير جهنم , حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت , فهوى في أثرها أبد الآبدين " . قالوا : والأمانة في الصلاة , والأمانة في الصوم , والأمانة في الحديث ; وأشد ذلك الودائع , فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق . * قال : شريك , وثني عياش العامري عن زاذان , عن عبد الله بن مسعود , عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه , لم يذكر الأمانة في الصلاة , وفي كل شيء . 21904 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : أخبرني عمرو بن الحارث , عن ابن أبي هلال , عن أبي حازم , قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا , فأبت ; ثم التي تليها , حتى فرغ منها , ثم الأرضين ثم الجبال , ثم عرضها على آدم , فقال : نعم , بين أذني وعاتقي , فثلاث آمرك بهن , فإنهن لك عون : إني جعلت لك لسانا بين لحيين , فكفه عن كل شيء نهيتك عنه ; وجعلت لك فرجا وواريته , فلا تكشفه إلى ما حرمت عليك . وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده , وخيانة قابيل أباه في قتله أخاه . ذكر من قال ذلك : 21905 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة الهمداني , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية , فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر , ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر , حتى ولد له اثنان , يقال لهما قابيل , وهابيل ; وكان قابيل صاحب زرع , وكان هابيل صاحب ضرع , وكان قابيل أكبرهما , وكان له أخت أحسن من أخت هابيل , وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل , فأبى عليه وقال : هي أختي ولدت معي , وهي أحسن من أختك , وأنا أحق أن أتزوجها , فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى , وإنهما قربا قربانا إلى الله أيهما أحق بالجارية , وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما , أي بمكة ينظر إليها , قال الله لآدم : يا آدم هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهم لا , قال : إن لي بيتا بمكة فأته , فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة , فأبت ; وقال للأرض , فأبت ; فقال للجبال , فأبت ; فقال لقابيل , فقال : نعم , تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك ; فلما انطلق آدم وقربا قربانا , وكان قابيل يفخر عليه فيقول : أنا أحق بها منك , هي أختي , وأنا أكبر منك , وأنا وصي والدي ; فلما قربا , قرب هابيل جذعة سمينة , وقرب قابيل حزمة سنبل , فوجد فيها سنبلة عظيمة , ففركها فأكلها , فنزلت النار فأكلت قربان هابيل , وتركت قربان قابيل , فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي , فقال هابيل { إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } 5 27 : 28 إلى قوله : { فطوعت له نفسه قتل أخيه } س 5 30 فطلبه ليقتله , فراغ الغلام منه في رءوس الجبال ; وأتاه يوما من الأيام , وهو يرعى غنمه في جبل , وهو نائم , فرفع صخرة , فشدخ بها رأسه , فمات , وتركه بالعراء , ولا يعلم كيف يدفن , فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا , فقتل أحدهما صاحبه , فحفر له , ثم حثا عليه ; فلما رآه قال : { يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } 5 31 فهو قول الله تبارك وتعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } 5 31 فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه , فذلك حين يقول : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال } ... إلى آخر الآية . وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عني بالأمانة في هذا الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين , وأمانات الناس , وذلك أن الله لم يخص بقوله : { عرضنا الأمانة } بعض معاني الأمانات لما وصفنا. وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله : { إنه كان ظلوما جهولا } . ذكر من قال ذلك : 21906 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي { إنه كان ظلوما جهولا } يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله. 21907 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا أبو أحمد الزبيري , قال : ثنا سفيان , عن رجل , عن الضحاك , في قوله : { وحملها الإنسان } قال آدم { إنه كان ظلوما جهولا } قال : ظلوما لنفسه , جهولا فيما احتمل فيما بينه وبين ربه . 21908 -حدثنا علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس { إنه كان ظلوما جهولا } غر بأمر الله . 21909 -حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { إنه كان ظلوما جهولا } قال : ظلوما لها , يعني للأمانة , جهولا عن حقها .